رمضان.. نوبة نظافة عظمى

رمضان لا يأتي أبدا على غرة، فيسبقه دائما أنواع من الاستعداد النفسي والبدني والاجتماعي والمادي، ولكن يمكن اختصار كل هذا الاستعداد بنوبة نظافة كبرى يقوم بها كل منا ليطهر نفسه أو بيته أو مجتمعه.

فمثلما تشمر كل ربة منزل عن ساعديها، وتنظر إلى البيت نظرة شمولية، وتبدأ في عد الأماكن التي لا تنظف إلا من السنة إلى السنة، وقبيل شهر رمضان بالتحديد، حيث ترفع السجاجيد لتمسح البلاط، وتنظف أعلى الدواليب وتخرج الـمَرْتَبات- جمع مَرْتَبة- والمُلل وأغطية السرير إلى الشمس، وتفتح الثلاجة لتنظفها وتوسع مكانا لأطنان اللحوم والألبان والمأكولات الرمضانية، يبدأ كل شاب (محترم) في الجلوس أمام جهاز الكمبيوتر، وينظر إليه نظرة شمولية، ويبدأ في ترتيب المحتويات المخفية والسرية لجهازه، أغنية أجنبية مليئة بالتلميحات الجنسية، فيديو مريب أو فيلم أجنبي يحتوي على مناظر مشينة، أفلام إباحية، ويستبدل عملية الإخفاء هذه المرة بالإزالة المباشرة، بل إنه يمحو من قاموسه أمر "Delete" إلى أمر "Shift+Delete"، ثم يبدأ في تنزيل القرآن بقراءات متنوعة والأدعية الدينية والأغاني الرمضانية وبرامج عمرو خالد وحلقات الشعراوي والأذان بصوت محمد رفعت، ويعيد توجيه جهاز الدش من الأوربي إلى النايل سات العزيز، ثم يزيل الغبار عن المصحف ويجلب مجموعة كبيرة من الكتب الدينية وكتب الثقافة العامة ليبدأ في تسلية صيامه بالعلوم النافعة.

ويمتد الأمر أيضا إلى رب الأسرة، الذي يرى علاقاته المقطوعة مع الأقارب والمعارف والأصدقاء والزملاء، فيمد ما قطعه الزمن وكثرة المشاغل، وكلمة "كل سنة وأنت طيب" من هنا، إلى كلمة "رمضان كريم" من هناك فتعود أوصال الود والمحبة، وينظف السيارة ويجهزها لاستقبال أفراد الأسرة في جولاتهم الإفطارية طوال شهر رمضان.

وتمتد نوبات النظافة إلى باعة المحلات، فيبدأ كل منهم في إزالة الغبار عن البضاعة القديمة وحملها إلى أقرب سلة مهملات لأنها فسدت منذ عام تقريبا، ويبدأ في توزيع الأطعمة الرمضانية والياميش والمكسرات ويترك مكانا للزبادي الطازج والجبنة الطازجة، وكل جزار يبدأ في تنظيف محله للتخلص من بقايا اللحوم التي فسدت أو جاءت من مصدر غير معلوم، ويستقبل الأطنان القادمة من السودان أو البرازيل لسد العجز البروتيني في هذا الشهر العظيم.

أي موظف حكومي أو في القطاع الخاص، يبدأ في عمل مصفاة لجيوبه، فيتخلص من أي نقود مشبوهة لأنه لا ينوي أبدا أن يفسد شهر الصيام، وكل فنانة محترمة ترتدي ثوب الإجادة في ملهى ليلي تخلع هذا الثوب وترتدي بدلا منه ثوبا نظيفا وتحاول قدر الإمكان تنظيف نقودها بعمل موائد رمضانية حافلة في شوارع القاهرة المعروفة، المواني والمطارات تنظف برامجها وتستعد لاستقبال رحلات عمرات رمضان، وفي نفس الوقت تنظف الأسماك في البحر الأحمر جلدها وتستعد لاستقبال وجبات رمضانية طازجة!.

وكل مغني معروف يحاول قدر الإمكان تنظيف حنجرته من الآثام ويبدأ في عمل تترات مسلسل ديني أو يغني أغنية أو نشيد ديني، وكل قناة تحاول تنظيف مكتبتها من المسلسلات المكررة المعادة التي عرضت ألف مرة وتبدأ في استقبال المسلسلات الجديدة، وتلغي كل برنامج فقد نسبة مشاهديه منذ عصور القرون الوسطى وتبدأ في عمل البرامج الرمضانية الجديدة، وفي مباريات كرة القدم يهدأ اللاعبون والمدربون ورؤساء الأندية قليلا من تبادل الاتهامات والشتائم، وتنتهي لبعض الوقت الهتافات والألفاظ والإشارات الإباحية، ويقل الاعتراض على الحكام، وتنظف الساحة من هواة السب واللعن والتهكم والردح، وتقل تهم الفساد وتلقي الرشى والعمولات والسمسرة، وتقل نسبة الكروت الحمراء والصفراء بسبب أن الإنذارات أيضا حرام في رمضان!.

أي مدمن سجائر يبدأ في حملات قوية لتنظيف صدره خلال فترة الصوم، وكل شارب خمر يمتنع تماما ويحاول تنظيف عقله وكبده من آثار الخمور المدمرة، وكل بصاص يحاول قدر الإمكان أن يغض بصره وإلا فقد صيامه، وفي ساعة الإفطار، تصبح شوارع القاهرة فجأة أكثر شوارع العالم نظافة من السباب والشتائم ورائحة البنزين والكيروسين المحروق، وتختفي أمواج العربات والأتوبيسات والباعة الجائلين والمسافرين.

وفي الحارات والشوارع تبدأ فرق الشباب في تنظيف الشوارع وإزالة الزينات القديمة من رمضان السابق وتبدأ في تعليق الزينات الجديدة لرمضان الجديد، ثم يبدأون في تنظيف الجوامع والساحات العامة للصلوات الأصلية والاستعداد للتراويح والعيد من بعدها، وتحاول بعض الفتيات أن توسع البنطال الضيق أو تنزل الجيب الذي وصل في رحلته العبقرية نحو التطور إلى مرحلة ميني جيب، وأن تنظف أطنان الميك آب عن وجهها الذي صار أشبه بوجه الدمية "تشاكي".. وتفتح كل فتاة دولاب ملابسها وتحاول قدر الإمكان إيجاد متسع لملابس العيد الجديدة التي تلازم قدوم شهر رمضان..

على المستوى الوطني تبدأ الحكومة في تنظيف آثار صفر جديد يضاف إلى إنجازات الوطن، صفر المونديال، صفر أوليمبياد بكين 2008، صفر تعامل رجال الأعمال مع إسرائيل، وعلى المستوى الدولي تبدأ الحكومة في تنظيف العلاقات مع الدول العربية والإسلامية بإرسال برقيات التهاني والتحيات الغالية لقدوم شهر النظافة العامة.

وعلى هذا تعدى شهر رمضان فائدته الدينية المعروفة، وأصبح – طبقا للظروف الحالية- شهر النظافة الفردية والجماعية، العامة والخاصة، أفلا ندعو الله أن يطيل شهر رمضان أكثر وأكثر، أفلا ندعو الله أن يجعل كل أيامنا رمضان... لعلنا ننقذ أنفسنا مما يحدث لنا من انتكاسات مروعة بعد هذا الشهر الكريم.. عارفها أنت طبعا!